لا النهار يمنحني المسرّة ولا الليل يسعفني بالأغنيات. الذين أُحبُّهم سرقوا حياتي ورحلوا. الأقداح طافحة بالندم، والطريق نهايته مثل بدايته؛ لا يفضي إلى استراحةٍ أو غفران. القبور المتحركة تجري على عجلات سريعة، والبئر التي هجرها الرُّعاة، أسوسُها بصبري الذي علّقته على غاربي حتى الموت.
المتوجّه إلى الله لا يخشى حوادث الزمان. من كان في كنف الرحلة فليتخفّف من أحماله؛ ذلك أنّ اليدَ الحالمةَ قاهرةٌ لزمانها، إذ تضعُ الوقتَ في قبضتها فلا ينحبس عنها الضوء. اليد بكفافها تسلكُ الطريقَ مدفوعةً بقوّة التمكين. لا تيأس من روح الله، فالعطاء خطفةٌ إلهيّة تظهرُ دونما مقدّمات.
يا له من يومٍ حزين!
بدر الليمون يغادرُ عالمنا ولن نراه مرّةً أخرى.
ستظلُّ منطقة الجوف مسكونةً بأغنياتك الجميلة. اسمُك المضيء منقوشٌ على جدران منازلها وجذوع أشجارها الشامخة، أثرُك باقٍ في بساتينها وساحاتها وشوارعها الحزينة... منطقة الجوف تبكيك وستظلُّ حيّاً في قلوب أهلها الطيّبين.
الفرار إلى الموسيقى هو احتفاءٌ بالضباب والوحدة والغموض. هو رفضٌ للواقع الذي يصقلُ مخالبَ الأعداء. الموسيقى موجودةٌ هناك، تنتظر الأشقياء المتأخرين، أولئك الذين أرهقتهم الدروب الموحشة. الموسيقى أمومةٌ مضيئة وفرحٌ معتم. عتباتها مدافن لدموع المذنبين. ليس للطفل إلاّ المحبّة والغفران.
ابن الجوف الفنّان الكبير بدر الليمون يحتاج إلى من يتبرّع له بالدم ( مستشفى الأمير متعب.. سكاكا ) عندليب الشمال الذي أهدى مهجة روحه ووجدانه على مدار أربعين عاماً.. دعواتنا له بالشفاء العاجل
لن يُصيبكِ أذى أيّتُها الوردة، أقسم لكِ بذلك، أنا مجرَّد ضيف، هذه يدي ناصعة من غير سوء، لقد هذَّبتني العبادةُ حتّى اضطربَ قلبي من الإيمان، أنا أحمل قنديلَ العابد، أسهر على جُرحي في الجوار. ما أعمق هذا العطر، يتسلَّل ببطءٍ وهدوء إلى الروح، خطوات صامتة اختبرت البرزخَ بعد سفرٍ طويل.
أُحبُّ الشعر أكثر من الرواية؛ لأنّي لا أستطيع أن أضع عصاي في الماء من غير أن تنكسر، ولأن ظلّي يركض بسرعة رهيبة في كل الاتجاهات، يحدث هذا حتى وأنا نائم. الشعر لِمن أحرقت جمرة الوقت راحة يده، للمنهوب من الساعات، للخائف والمتوجِّس والحزين. أمّا الرواية فتحتاج إلى امتلاكٍ وهمي للزمن!
المعنى الذي تقولُه لنفسك وأنت غائبٌ عن الكائنات والأشياء، يكون فاتناً ومُخيفاً مثل تميمة الوحش. الساعةُ تُلقي بظلالها على الوجوه المُلبّدة تحت غبار الوقت. النظائرُ عاريةٌ حتّى العظم. السرُّ الذي تحملُه لا يناسب المدينة، اهربْ إلى الصحراء، واجعل سرّك المُقدّس وديعةً في ذمّة الحجر.
أنا الهارب من مدينة إلى مدينة، كان بإمكاني أن أهرب حتى آخر العمر، لكنني وجدت هذا الجدار أخيراً، في حياة كل محارب هناك جدار ينتظره، يبدو أن استراحتي الأبدية ها هنا، في ظل هذا الجدار سوف أراهن على القليل المتبقي من حياتي، آه تذكرت أمي والجدران الكثيرة التي كانت تحميني يوم كنت صبياً
جمالُها سبّب لي الخوف، وجعلني غريباً إلى الأبد. هربتُ إلى جبالٍ بعيدة، أردتُ أن أموتَ بين صخور الصوّان القاسية. نحرتُ الصحراء حتّى اختلجت وفاضت وديانُها بالدموع. لقد اختطفتني بجمالها المخيف. ربما لن أراها مرّةً أخرى، لكنّي رأيتُ في عينيها تابوتاً عائماً، تحلّقُ فوقه طيورٌ متوحشة.
الحب انحرافٌ عن المقصد الواضح، بلاغةٌ تقوم على التجرُّدِ والزهد، ثمرة عوسج في حفلةٍ سريَّة يتقاسمُ مباهجَها شخصان فقط، اقتران طائرين تشهدُ عليه نارٌ خفيفةٌ في البيداء، حيث يُسَلِّم أحدهما نفسه الفانية إلى الآخر. ما الحب إلا جوهر الفناء ومخمل الأبدية.
الشُجيرات الصغيرة تطرحُ مُدّخراتها مبكّراً، أمّا الأشجار المثمرة ذات النفَس الطويل، فليست على عجلةٍ من أمرها، إنّها تحترفُ البُطء وترعاه بوصفه مصدر خصوبةٍ وغنى. لكلّ شيء وقت، وخير الأشياء ما كانت ثمرتُه مستقرّةً في القلب، وكان ظلُّه ملاذاً للطائر والغريب.
أتشبّهُ بزهرة الجبلِ وأبكي بصمت، كثيراً ما يدفعني الشوقُ إلى الموت، أستعينُ بالصلاة على ما يبدّدُني فأحيا قليلاً، أتلفّتُ كالخائف وسط مكانٍ لا يعرفُه، أتلفّتُ مشتاقاً وملهوفاً، هناك من يمكرُ بي ويضحك، أتلفّتُ فلا أجدُك من حولي، تغيبُ الصورةُ ويختفي العالمُ، وأكونُ في أوّل الموت.
أُحبُّك ولا أُسمّيك إلا لطيور البراري؛ ذلك لأنها ترعى الاسم ولا تصرّح به لأحد. جُبلت الطيور على الإشارة الخاطفة والرمز المتبحر. تآخيتُ مع ذوات الريش، تحرّرت من الرواسب القديمة، تخلصت من الأشياء العالقة بين أجفان الساعات. عبرتُ أرض الرؤى المرموزة وحيداً مثل ذئبٍ يرعى حزن الأنبياء.
الصوتُ الذي يطاردُك يشبه الرجفات المجنونة لساعةٍ على جدارٍ غير مرئي. توقّف عن الفرار، لقد هربتَ حتّى أقصى الأرض. إنّ هذه المادّة المضطربة منتزعةٌ من طريقتك في الهروب. هذا الصوت لا خطوات له في الخارج، إنّه صوتُ أعماقك، لا تهربْ، ضع طاولةً بينك وبينه، تحاورْ معه ويدك على الزّناد.
فإن قرأتني لخاطرٍ ما، فاقرأني بحبّ، كي يبلّل الماءُ اللطيفُ ثوب العاشق. العلامةُ لا تظهر لحارس الأبواب، ولا لمن يبني سجنه بيديه. اقرأني كما يقرأ الغجريُ مواقع النجوم، وكما يقرأ المصلوبُ آيةً من كتاب الغيب. اقرأني فأنا حلمك الغامض. ولا تكن كالدسّاس، يده الآثمة مدسوسة في دم الغريب.
أريدُ أن أراك في أرضٍ غريبة، نكتشفها أنا وأنت. رُبّما تأخذنا صيحةُ طائرٍ مجهول، رُبّما نضيع تحت سقف أحزاننا، لكنّنا سنصلّي كي يستمرّ ضياعُنا، كي نظلّ مغمورين بالضوء والصّلاة.
الروائي الكبير يحيى امقاسم
صاحب الرواية الشهيرة "ساق الغراب"
وكذلك الرواية المتميزة "رجل الشتاء.. أيّام كثيرة وصغيرة"
صديقٌ استثنائي تسكنُه روح الشعر وأسئلته اللامتناهية
يحيى طائرٌ جميل ينتمي إلى أفق الدهشة والجمال.
حين أكتبُ لك أتخلى عن الغموض والترميز، تصبح لغتي شفّافةً كالماء والصلاة والدموع. أخشى أن تبعدني ذخائر البلاغة عن سحر عينيك، فتغشاك عتمة الذهب ويسكنك حزن الغروب. تكتبني اللهفة يا حبيبي، ألا ما أعذب البوح بين يديك. أبثُّ إليك ما في داخلي من وجْدٍ وهيام، والناس لا أكلّمهم إلا رمزاً.
إن كنتُ لا أسلك خطّاً مستقيماً بين نقطتين، ولا أمشي في دائرة مغلقة، فذلك؛ لأنّي سلّمتُ أمري للريح، وتركتُ الطيور تلتقطُ من أحلامي ما يصلحُ للإقامة الدائمة في التيه، الهندسةُ ليست من جلسائي؛ لأنّها بنتُ اليقين الراسخ، أمّا أنا فابن المراكب التائهة، تخلبني وردة الدهر فأنسى من أكون.
فلنذهب إلى النهار معاً؛ أخشى أن تتركني وحيداً في الحجرة المعتمة، تتركني همَلاً وترحل على حين غرّة، فتداهمني أشباحُ الليل، وأصبح مهجوراً من الضوء والطريق والأصدقاء.
أحمد الله حمداً كثيراً على سلامة ابني راكان، وشقيقه رعد، وسلامة أصدقائهما، بعد حادث البارحة ( حادث سير ). لم يطمئن القلب إلا بعد أن تأكّدتُ من سلامة أصحاب ابني.. عناية الله شاملة ولطفه كبير.
لو كان الحبُّ كتاباً لطويناهُ واسترحنا من وجع الأيّام. لكنّه ليس كذلك، الحبُّ شمسٌ تكسّرت وراء جبل، نغمةُ نايٍ في فجرٍ حزين، سرابٌ ليس له فهرس، يتشبّهُ بالخرافة والشمس شاهدةٌ عليه. انخسفت بي الراحلةُ يا طفل الخسوف. لو كان الحبُّ كتاباً لطويناه لكنّ السماءَ ليست صافيةً في الأرياف.
شجرة الأثل
لن تحظى باستراحة قصيرة ولا بظل بارد تحت هذه الشجرة؛ ركامها أو خشبها الخشن الذي يتواقع بعشوائيّة أسفل جذعها يشبه عفش مخلوق متوحش. هذه الشجرة توحي بالشقاء. ألقيت عليها نظرة طويلة فسكنَتني بقايا معركة وقعت بين أطراف مجهولة، في زمنٍ من الأزمنة الغابرة.
رأيتُ في عينيه وهجاً غريباً، كأنّه مقتبسٌ للتو من طفولةٍ أو فردوس. هذا البريق لا يملكه إلا شخصٌ كثير النسيان، فالوقائع بنحاسها وصمغها لم تنل من روحه البكر. ما احتفظت عيناه بالوميض إلا لأنّه ينسى بكثرة. للبرق غرضٌ واضح : أن تقرأ الرسالةَ وتنسى ما قرأت.
عين الإبرة مقامٌ واسعٌ كالبحر. لكنّ المترحّل لا يسعى لامتلاك شيء؛ فالأصل في التّرحال توطين النفس على كثرة المفقودات. هذا الزاهد المتجرّد يأخذه سهو دائم وشرودٌ أبدي عمّا يحيط به من ساعات ومواعين. اختر أغنيةً لطريقك، فالرحلة موغلةٌ في البعد، وأنت لا تزال في أوّل الطريق.
كلمات العزاء موجعة يا جار الله الحميد
بعد رحيلك سيظل الشمال حزيناً إلى الأبد
وداعاً يا فارس الكلمة الغرّاء
وداعا يا رفيق المنعرجات الأليمة الجارحة
وداعا يا جوهرة حائل الملطخة بالحزن والصدمات
وداعا أيها الرائد الكبير
أنت أكبر من المشهد الأدبي في بلادنا
لذلك وقع عليك الظلم والتنكيل
يوماً ما سنلتقي، لن نتحدّث، وإنّما سننزع السهام الناعمة المسمومة التي استوطنت جسدينا. لا ريب أنّنا سنبكي، لكنْ، تحت تأثير فرحٍ مرتبك. لن أخبرك عن أحزاني؛ فهي أحزانك على كلِّ حال. لقد خبّأتُ قلبي تحت ورقة خريف، كيلا تنتبه إليه العينُ الخائنة. يوماً ما سنلتقي على سفحِ أغنيةٍ حزينة.
فليستمر الليل في الهطول على العالم، طالما أنّ حبيبي لا تأخذه ريبة من الذئب. قلبي أمانة يرعاها النخل ويتعهدها اليمام. ساعة الحائط تستمد نبضها من آثار خطواته. دع القناع يسقط، الوجه قنديل الطريق. لن يرانا الوشاة؛ نحن نختبئ في جوف القبلة اللذيذة التي تحفر بسطوتها أعماق المساء.
الصدمات القاسية جعلتني أنسى الوجوه والأسماء. أعرضتُ بوجهي عن القوافل المنتظمة على طريق الحرير. المدينة علّمتني لغة الإنكار، رغم أنّ كلّ شيء يحدث تحت جلدها المدبوغ بالعملة المعدنيّة. سأعبر الصحراء، وهناك، لن أصطدمَ إلّا بظلالٍ منزوعةٍ من ذاتي القديمة.
أرى المحبوبَ في كلّ شيءٍ يحدثُ من حولي، الغيمة الراحلة دون متاع، النهر الذي تُخيّمُ طيورُ البجع على صفحته الذهبيّة وقت الغروب، الجسر الخشبي الذي تساقطت عليه أوراق الخريف فأنقذَتهُ من وحشته وزادتهُ غموضاً، أرى المحبوبَ في حلمٍ خاطف، فأودُّ لو أموت ويستمرّ الحلمُ الخاطفُ إلى الأبد.
كلُّ شيءٍ يزجرني عنك وما أنا بمُزْدجر، الساعةُ تُطوّقُني بالأحصِنةِ والمواقيت، لكنْ هيهات أنْ أمتنعَ أو أتراجع، حاجتي إليك عظيمة، تهرقُني شفقاً شفقاً وغسقاً غسقاً على صعيدٍ مُلتبس. أنا سلطانُ اللغة وأنت عرشي المُزيّن بالنقوش والعلامات، ألا تسمعني؟ أنا أهتفُ باسمك وراء جدار الليل.
كتاب " مختارات من الشعر السعودي"
سعدتُ بترجمة بعض نصوصي إلى اللغة الفرنسيّة ( أنا وكوكبة من الشعراء السعوديين ) في هذا الكتاب الذي صدر ضمن مبادرات " مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "
* هذا الكتاب تعهّده وأشرف عليه ورعاه وانتقى نصوصه الشاعر القدير عبدالله السفر
العالم يبتعد والحياة باتت مستحيلة
من لا يملك سلاحاً ستحرقه الدموع
لا شيء هنا سوى النساء والغربان
القمر ينام في صحنٍ يغطّيه السعف
ومن حوله يطوف اللصوصُ والقتلة
التماثيل العمياء تصنع بؤس العالم
مضى العمرُ دون أن نفعلَ أيَّ شيء
لسنا أبرياء لنحظى بالفردوس
لسنا خاطئين لنحلمَ بالجحيم.
في ليلة مظلمة ظهروا من وراء الجبال، ها هم يحيطون بي من كل جانب. طلبت منهم أن أنحتَ بضع كلمات على صخرة، دفعوني إليها وهم يضحكون. كان البرقُ يضيء الصخرة ويدي ترتعش في ظاهر الضوء. قرأوا كلماتي فألقوا أسلحتهم وهربوا عبر مسارب الجبال، من شدة خوفهم حملوا الخيول على أكتافهم وفروا هاربين
سرُّ الجمال في أن يظلّ طريداً منفيّاً، ليس له محل إقامة أو مسقط رأس. هو يظهر في الجوار لا ليصبح سنداً تحت اليد، وإنما ليكون نقطة عبور إلى موتٍ شفّاف. الجمال هو الإيقاع الداخلي للخطوات الذاهبة نحو لغزٍ غامض تحظى عناصره بسعادةٍ زائلة. منطق الطير يقول: اللغز قبضة ماء، وريشة في هواء.
وضعت يدي على قلبي، دعوت الله كثيراً أن لا تغرب شمسك، كنتَ لي السكن والسكينة، لكنّك رحلت في ليل لا ينتهي، ظننتُك جائزةً وهبني إيّاها ملكُ الملوك، فإذا بك تتركني أجمع القَتاد وأحصد السُّهاد. النّهار البريء يشحذ الكُحل من عينيك الجميلتين، لكنْ، أي ليلٍ طواك في ظلمته يا ملاكي الطائش.
أصبحتُ وحيداً بعد رحيلك، تجرحُني أضواءُ الغروب وكلماتٌ تخفقُ وترتجفُ كالستائر في غرفةٍ مهجورة. أَلَمْ ترَني والطيور تتنزّل بين يديّ آمنةً مطمئنّة؛ من شدّة الشوق تعطّلت ساعتي وانتكست رايتي، أقمتُ في المكان دهراً مثل حجرٍ جاهلي. اذكرني في غربتك، فأنا لا أنساك ما دُمْتُ حيّاً.
الصحراءُ تؤسّسُ في داخلي مبدأ الريبة، عبثاً أبحثُ عن شيءٍ أستندُ إليه؛ الزوابع الرمليّة تفتّتُ وجه اليقين إلى ذرّاتٍ لا متناهية في الصغر. لقد سقطَ في العراءِ كلُّ شيء : المفاتيحُ والساعات وهياكلُ الحيوانات العملاقة. طُوبى لهذا الحجر الأصمّ، فهوَ لا يحلمُ ولا يتخيّلُ ولا يرتاب.
النسيمُ لغةٌ في الهمس والمُلاطفة، هو يأتي دائماً على استحياء، إذ لا غرض له إلا تمجيد الأسرار الصغيرة. إنّه جملةٌ موسيقيّةٌ خافتة، يترنّمُ بها الملاكُ تحت شجرة الياسمين. رأيتُك في المسرى محمولاً على جناح النسيم، لكنّي عدتُ وحيداً إلى ذلك الكوخ، هناك صلّيتُ وكانت صلاتي حزينة.
يحتفل بك الطريق ما دمتَ في أثر من تحبُّه وتهواه. فإن استقرّت نظرتك على آنية الذهب حُرِمتَ من المجاورة، وتحوّلت أغنياتك من طقس الطائر إلى شعيرة الحِداد. عصا التّرحال بيدك فلا تنبذها؛ فهي مفوّضة لاجتذاب البروق الخاطفة إلى خيمة المترحّل، حيث الرقم السحري يتقاسم أسراره مع وردة العدم.
في داخلي قارّةٌ مجهولة لا أستطيع سبر أغوارها، حاولتُ ملامسة سطحها عبر لغتي، لكن اللغة بمعجمها وسحرها وجنونها لم تسعفني بأيّ شيء، إذ في كلّ مُروادة كانت الكلماتُ تنتشلُ من أعماقي قبراً مضيئاً يتبدّد قبل أن أنظرَ إليه. لذا، هجرت الكلمة واعتنقت الموسيقى؛ فهي شعاعٌ بين الصمت والصلاة.
أرادت الصحراء أن تكون وحيدةً فابتلعت كلّ شيء يتعارض مع صورتها عن نفسها. أجهزت على الآخرين، قطعت الأوتار المجلوبة من السماء، أدخلت الظلال في هلوسة بصرية، حيث الماء الأصفر يترنح تحت عصا الزوبعة. لقد تهدّمت من الداخل، وها هي تقدم الكفارات والنذور لريح عاتية ليس فيها إلا دمدمات العدم
الحبُّ يطرق بابك لا ليدخل البيت ويصبح من حمام الدار؛ وإنّما ليأخذك معه إلى أقاصي الحلم. للحبِّ طلبٌ واحد : أن تتخلى عن كلِّ شيء، وتتبعه كمن يسير وهو نائم. الحبُّ يوقظ الغربة ويقودك إلى المجهول. تضحك وتبكي تحت أهدابه، لكن حين يأتي الخريف يأخذ الحبُّ ثيابك ويدفنك في مقبرة الغرباء.
هاتفني البارحة الفنّان بدر الليمون ( مكالمة جوّال ) وأخبرني أنّ
مكتب وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله اتصل به للاطمئنان على صحّته. تجدر الإشارة إلى أنّ المؤسسات الثقافية والجهات الفنيّة بالجوف لم تكلمه، لم تسأل عن أحواله، بل تجاهلت هذا الرمز الفنّي الكبير. تلك مفارقة محزنة!
حتى الأشياء الجميلة كنّا ندوسُها بأقدامنا، ونمضي مُسرعين، الجمال يصرخ كي نتوقف، كي نلتفت إليه ولو للحظة واحدة، لكنّنا لم نتوقف ولم نلتفت؛ الخطر المحدق كان أكبر، كنّا خائفين، نركض بعيونٍ تتسرّب منها الصور، كلما كشطنا الليل عن الطريق، ظهر لنا من ورائه ليلٌ آخر، أشد ظلمة وأكثر رهبة.
لا تصنع من حزنك طقساً جنائزياً لينخرط فيه الناس، لاتجعل من روحك رواقاً مبتذلاً في عصر الفُرجة. أخشى أن تتحول أحزانك إلى فاكهةٍ متفسخة. ألا ترى كيف تخفي الشجرة أحزانها وهي رابطة الجأش، ألا تراها تزهرُ وهي في ذروة العذاب. الحزين يلوذ بالأشجار، الحزين يتدثر بالخُضرة صامتاً مستوحشاً.
الصحراءُ خاليةٌ من كلّ شيء؛ لأنّها أرض التوبة والغفران. يلجأ إليها المؤمنُ هارباً من أبراج الفتنة ومكر الصيارفة. اجتذبتُ الصحراءَ إلى ناحيتي مرتجفاً من شدّة المحو والنسيان. كنتُ خائفاً كمن أفزعتهُ صيحةُ قطارٍ في أوّل شبابه يهدم القرون ويسلخ الأزمنة قبل أن يتوقّفَ صوتُه إلى الأبد.
لست من الذين احدودبت ظهورهم جرّاء استعمال لغة جاهزة يتوسلون بها صوت الشارع ومدوناته اليومية المتشابهة سريعة الانتشار. أعالج نفسي بالمفعول السحري للبلاغة، أكون عريساً ومحارباً في الآن نفسه، أتقدّم إلى النص بقامة شاهقة ومفاتيح كثيرة، أنا ساحر البلاغة، والحدبة ليست من نصيب البُلغاء.
قرأتُ الوجوهَ والأحجار وأخشابَ السفن الخائفة
قرأتُ الوقت
وعرفتُ ما تُخفيه الساعة المتبجّحة
قرأتُ عيون الطيور الخارجة من رماد المداخن القديمة
قرأتُ هواجس الريح وحفيف الأشجار
قرأتُ ظلال الكلمات الغامضة
أخفيتُ أسراري في صحراء مطويّةٍ كالقميص
قرأتُ موتي في عينيك
وكنتُ سعيداً إذ أموت.
نباركُ لأهلنا ورفاقنا في مدينة دومة الجندل العريقة على هذا الإنجاز التاريخي الذي قام بتحقيقه نادي الجندل الرياضي وذلك بصعوده إلى دوري أندية الدرجة الأولى للمحترفين، ليصبح سفيراً لمنطقة الجوف في دوري يلو، كما نشكرُ رجال المرحلة المخلصين الذين كانوا وراء هذا الإنجاز الفاخر الجبّار.
• أُحبُّ الغريبَ الذي ترك البرهانَ وراء ظهره، وجاء وعانقني دون أن يدري من أنا.
• شخصٌ ما لا أعرفه، شد العصابةَ على عينيّ، وتركني تائهاً إلى الأبد.
• لا أحبُّ مواجهة العدو إلا على طرف هاوية.
• كم من الأحزانِ بين فروعكِ يا نخلة الله.
• الدهرُ دبّاغٌ يُديرُ العلكةَ في فمه.
الصمت هو من اختارني لأكون رفيقاً له في رحلته اللامتناهية إلى أرض الإشارات السريِّة. وقفت على حدِّ الشفرة مرتاباً ومطعوناً. لقد سكنتني إلى الأبد أحزانُ الدائرة رغم أنِّي منطلقٌ على خطٍّ مستقيم. الدهر ينتظر على بابي كي يستردَّ ضحكته القديمة من حطام معركةٍ وقعت بين الوجه والقناع.
تعرّفتُ على نفسي في العاصفة، لذا، صرتُ مرتاباً، أشكُّ في الطقس الهادئ، مضطرباً لأنّ معرفتي تشكّلت من عناصر بركانيّة، المعرفةُ عندي تستمدُّ قوّتها من تجارب مرهفة ومصقولة كحدّ النصل، الجروح مصادر نازفة من الفصيلة الورديّة، اقرأ جرحك جيّداً فهو شيخ التجربة، الجرحُ لا يكذب ولا يراوغ.
حائل.. ترجمة أعمال الأديب الكبير جارالله الحميد إلى اللغتين الإنجليزية والصينية.
أخبرني الصديق الغالي جارالله هذا المساء عن إنجاز مشروع الترجمة. لقد سررتُ بسماع هذا الخبر المبهج؛ لأن أبا تغريد صوت مختلف، فنّان من طراز رفيع، علامة مضيئة في مشهدنا الثقافي. هو سبّاق في ارتياد الآفاق
أبارك لصديقي الأديب عبدالرحمن الدرعان هذا التكريم المستحق، كما أبارك للجهة المشرفة على تكريم الدرعان " جمعية الثقافة والفنون بالجوف" وأخصُّ بالشكر الرئيس السابق نواف الذويبان لمسعاه المحمود في إرساء هذا التكريم، والشكر موصول للرئيس الحالي خالد العيسى.. إن هذا التكريم بشارة الأمل
من هو الغريب الذي وضع القدح على طاولتي، ومضى وحيداً في عربات الليل، لماذا طلب الغفران منّي وهو لا يعرفني أصلاً، ولماذا قلتُ له وأنا أرسم وجهاً في الظلام : لاعليك، لقد غفرتُ كلّ شيء.
رأيتُك في أثر الطير وحلم المُصَلّي وطعنة الماء الشّفيف، رأيتُك ملاكاً يلعبُ مع أوّل الظلّ بترَف الشكل وطيشه، رأيتُك يا زهرة النرجس فسألتُ الله أن أكونَ نهراً لترى صورتك على صفحتي المُزْهرة، رأيتُك فبكيتُ صامتاً، بكيتُ وفي داخلي وحشة الراحلين.
لست بحاجةٍ إلى معرفة عالمك السري
نور وجهك يكفي لأصبح من العارفين
وإلا فأنا غوّاصٌ في صميم الباطن
تشرّبتُ كلام الأنبياء وحفظت وصاياهم الجليلة
العالم موحشٌ مليءٌ بالأشرار والفاسقين
فلنهرب إلى البريّة حيث يطيب السمر والغناء
أنا لا أنسى الوقتَ إلا معك
وهذا سببٌ كافٍ لتفهمَ معنى الحب.
أريدُ أن أراكَ في أرضٍ غريبة، نكتشفها أنا وأنت. رُبّما تأخذنا صيحةُ طائرٍ مجهول، رُبّما نضيع تحت سقف أحزاننا، لكنّنا سنصلّي كي يستمرّ ضياعُنا، كي نظلّ مغمورين بالضوء والصّلاة.
" كنت تحبُّهم بكلّ يأسك
هم الذين يقفون الآن مثل جدارٍ أمامك،
إنّهم لا يريدون فكاكاً من حقيقة أنّهم امتلكوك إلى الأبد."
الشاعر الراحل عقيل علي ( العراق ).
كوني أقوى أيّتُها الريح، اجرفي كلَّ شيءٍ في طريقك، أنا جاهز للجباية يا ربَّة الغضب الكَنُود. لكِ منِّي الفكرة المدمِّرة، أقوم بتقليبها على وجوهٍ شتّى وأنا ألعب برؤوس الشياطين، لي منكِ الصوت الرافض الذي لا يستقر في شكلٍ واضحٍ أو كتلةٍ ثابتة، الصوت الذي يغزو المواقع ويحبس الأنفاس.
أُخفي عنك أحزاني؛ كي تظلَّ سعيداً، حتّى لا تشوب فرحك شائبة، وجهك الضاحك يرسم موتي بريشة غراب، أنا أحمل السِّجِل على وجه القبول، ربما الموت ليس بغيضاً إلى هذا الحد، الموت حكومةٌ جامعة، هو قريب لأنّ له سحنة الأم المُدلاَّة بحبل، حيث الغبار الأبيض يجرِّد الشخص من الأسماء والصفات.
هل تأخرت رسائلي كثيراً قبل أن تصلَ إليك؟ في غيابك كتبتُ الكثير من الرسائل، كتبتُها على أوراق الخريف، عسى أن تنشرَها الرياحُ يوماً على طريقك! في كلّ مرّة كان شوقي إليك يُحيي الأوراقَ المتساقطة الميّتة فترتعشُ مجدّداً وتعودُ مزهوّةً إلى أماكنها في الأشجار.
• جرحٌ لا شبهة فيه ولا التباس.
• ما أقساك أيُّها السّراب، تمتحنُ الظمآنَ حتّى الموت.
• الجنّةُ واضحةٌ في حلم الذّبيح.
• الوردةُ مُرتهنة لكنّ عطرَها ضدّ الرّاهن.
• لن تراني؛ أنا أثرُ الإبرةِ في الأرض الخالية.
• اعتصمتُ بالهندسة حتّى لا يفنّدني أحد.
كما يتخلَّى الفارس عن الأوسمة والنياشين، ليكتفي بالجروح، وآثار الطعنات التي تركت وسمَ المُنازلة الدامية في جسده، كذلك، على الشاعر أن يتخلَّى عن زخرف القول، وبهرج القشرة الخارجية؛ ليكتفي بالصدق وحرارة التجربة. ما المجد إلا ثمرة جُرحٍ غائر.
أشرب القهوة حتى لا أفقد ملامحي
أنا موجود كي أخرّب خطّة النهار
أرعى أزهار الحرب بيدين مرتعشتين
الكتابة حقيبةٌ محشوّةٌ بالأظفار والفضلات
الدّم وحده يضيء الطريق للسالكين
أحلامي لا صورة لها إلا في الأودية المقدّسة
لا أموت إلا على طريق من أُحب
قبري مرآةٌ تنكسرون أمامها وأنتم تنظرون.